فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

والمراد بالَّذين آتاهم الله الكتابَ: أحبار اليهود، لأنّ الكتاب هو التّوراة المعروف عند عامّة العرب، وخاصّة أهلُ مكَّة، لتردّد اليهود عليها في التّجارة.
ولتردّد أهل مكّة على منازل اليهود بيَثرب وقُراها ولكون المقصود بهذا الحكم أحبارَ اليهود خاصّة قال: {آتيناهم الكتاب} ولم يقل: أهلُ الكتاب.
ومعنى علم الّذين أوتوا الكتاب بأنّ القرآن منزّل من الله: أنَّهم يجدونه مصدّقًا لما في كتابهم، وهم يعلمون أنّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم لم يَدرس كتابهم على أحد منهم، إذ لو درسه لشاع أمْرُه بينهم، ولأعلنوا ذلك بين النّاس حين ظهور دعوته.
وهم أحرص على ذلك، ولم يَدّعوه.
وعلمُهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأنّ العناد والحسد يصدّانهم عن ذلك.
وقيل: المراد بالَّذين آتاهم الله الكتاب: مَن أسلموا من أحبار اليهود.
مثل عبدا لله بن سلاَم.
ومُخَيْرِيق، فيكون الموصول في قوله: {والذين آتيناهم الكتاب} للعهد.
وعن عطاء: {والذين آتيناهم الكتاب}.
هم رؤساء أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعُمر، وعثمانُ، وعليّ.
فيكون الكتابُ هو القرآن.
وضمير {أنَّه} عائد إلى الكتاب الّذي في قوله: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب} وهو القرآن.
والباء في قوله: {بالحق} للملابسة، أي ملابسًا للحقّ.
وهي ملابسة الدّالّ للمدلول، لأنّ معانيه، وأخباره، ووعده، ووعيده، وكلّ ما اشتمل عليه، حقّ.
وقرأ الجمهور {مُنْزَل} بتخفيف الزاي وقرأ ابن عامر وحفص بالتّشديد والمعنى متقارب أو متّحد، كما تقدّم في قوله تعالى: {نزّل عليك الكتاب بالحقّ} في أوّل سورة آل عمران (3).
والخطاب في قوله: {فلا تكوننّ من الممترين} [البقرة: 147] يحتمل أن يكون خطابًا للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون التّفريع على قوله: {يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} أي فلا تكن من الممترين في أنَّهم يعلمون ذلك، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر: هذا مَا لا شكّ فيه، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أنّ أهل الكتاب يعلمون ذلك، لأنّ غريبًا اجتماعُ علمهم وكفرهم به، ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن، ليعمّ كلّ من يحتاج إلى مثل هذا الخطاب، أي فلا تكوننّ أيُّها السّامع من الممترين، أي الشّاكين في كون القرآن من عند الله، فيكون التّفريع على قوله: {منزل من ربك بالحق} أي فهذا أمر قد اتّضح.
فلا تكن من الممترين فيه.
ويحتمل أن يكون المخاطب الرّسول عليه الصلاة والسلام، والمقصود من الكلام المشركون الممترون، على طريقة التّعريض، كما يقال: (إياكَ أعني واسمعي يا جارهْ).
ومنه قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65].
وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، والتفريع فيه كما في الوجه الثّاني.
وعلى كلّ الوجوه كان حذف متعلّق الامتراء لظهوره من المقام تعويلًا على القرينة، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثّلاثة غير متعارضة، صحّ أن يكون جميعها مقصودًا من الآية.
لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصّل إليه منها.
وهذا فيما أرى من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع، ويجيء مثله في آيات كثيرة، وهو من خصائص القرآن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)}
قلْ لهم أترون أني- بعد ظهور البيان ووضوح البرهان- أَذَرُ اليقين، وأوثر التخمين وأفارق الحقَّ، وأقارن الحظ؟ إن هذا محال من الظن. اهـ.

.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} فيه وجهان:
أحدهما: معناه هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله حتى أعدل عنه.
والثاني: هل يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحتكم إليه.
والفرق بين الحَكَم والحَاكِم، أن الحَكَمَ هو الذي يكون أهلًا للحُكْم فلا يَحْكُمُ إلا بحق، والحَاكِمُ قد يكون من غير أهله فَيَحْكُمُ بغير حق، فصار الحَكَم من صفات ذاته، والحَاكِم من صفات فعله، فكان الحَكَم أبلغ في المدح من الحَاكِم.
ثم قال: {وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} في المفصَّل أربعة تأويلات:
أحدها: تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل.
والثاني: تفصيل الصادق من الكاذب.
والثالث: تفصيل الحق من الباطل، والهدى من الضلال، قاله الحسن.
والرابع: تفصيل الأمر من النهي، والمستحب من المحظور، والحلال من الحرام.
وسبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَمًا إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت عليه هذه الآية. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {أفغير} نصب ب {أبتغي}، و{حكمًا} نصب على البيان والتمييز، و{مفصلًا} معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته، وإن كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حَكمًا في كل شيء وفي كل قضية فإنَّا نحتاج في وصف الكلام واتساق عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات. وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من الجن والإنس، و{حَكَمًا} أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر، و{حَكَمًا} نصب على البيان أو الحال، وبهذه الآية خاصمت الخوارج عليًا رضي الله عنه في تكفيره بالتحكيم، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى.
وقوله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}.
يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم {منزّل} بالتشديد، والباقون بالتخفيف، و{الكتاب} أولًا هو القرآن، وثانيًا اسم جنس التوارة والإنجيل والزبور والصحف، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى الخصوص وإنما يريد علماؤهم وأحبارهم، وقوله: {فلا تكونن من الممترين} تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين. اهـ.

.من فوائد الخازن في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله عز وجل: {أفغير الله أبتغي حكمًا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أفغير الله أطلب حكًا قاضيًا يقضي بيني وبينكم وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكمًا، فأمره الله تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب والحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة، غير أن بعض أهل المعاني قال: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم من شأنه أن يحكم والحكم أهل أن يتحاكم إليه وهو الذي لا يحكم إلا بالحق فالله تعالى حكم لا يحكم إلا بالحق فلما أنزل الله على محمد القرآن فقد حكم له بالنبوة وهو قوله تعالى: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلًا} يعني علماء اليهود والنصارى {يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} يعني يشهدون أن هذا القرآن منزل من عند الله وذلك لما ثبت عندهم بالدلائل الدالة على ذلك، وقيل المراد بهم علماء الصحابة ورؤساؤهم مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونظرائهم يعلمون أن هذا القرآن منزل من ربك بالحق فآمنوا به وصدقوه {فلا تكونن من الممترين} يعني فلا تكونن يا محمد من الشاكّين أن علماء أهل الكتاب يعلمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله وقيل: معناه فلا تكونن في شك مما قصصنا عليك أنه حق وصدق فهو من باب التهييج لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط، وقيل: الخطاب وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به غيره.
والمعنى: فلا تكونن أيها الإنسان السامع لهذا القرآن في شك أنه منزل من عند الله لما فيه من الإعجاز الذي لا يقدر على مثله إلا الله تبارك وتعالى. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}
فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن، وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع القانون، ومن يخالف القانون. وساعة تقول: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا}. فهذا دليل على أنك واثق أن مجيبك لن يقول لك إلا: لا تبتغي حكما إلا الله، ولذلك يطرح المسألة في صيغة استفهام، ويقول صلى الله عليه وسلم: مبلغا عن ربه: {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلًا}، ولم يقل رسول الله: وهو الذي أنزل عليّ الكتاب، بل قال مبلغًا عن رب العزة: {وهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} كأن العداوة ليست لمحمد وحده، لكنها العداوة لأمة الإيمان كلها، والحكم لأمة الإيمان كلها. ومع أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولًا، ولكن مهمته البلاغ إلى الناس والغاية منه للمؤمنين كلهم، وهكذا تكون العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم، ولذلك أنزل عليه الحق هذا التساؤل: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا} كما أنزل عليه من قبل القول الحق: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112]
إذن فعدو النبي هو عدو المؤمنين به والمتبعين له، لكن قمة العداوة تكون للنبي المرسل من الحق:
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114]
وكلمة {مِّن رَّبِّكَ بالحق} فيها إغراء للمؤمنين بأن كل الأمر يعود عليكم أنتم بالفائدة؛ لأن غاية إنزال الكتاب لكم أنتم، والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم ولن يزيد في صفات الله صفة، ولن يزيد في ملك الله ملكا. بل الغاية أنتم.
{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} [الأنعام: 114]
وسبحانه لم ينزل الكتاب إلا بتفصيل لا تلتبس فيه مسألة بأخرى:
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114]
والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم يعلمون صفاتك يا رسول الله ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الآفة أنهم اعتنقوا دينين: دينا يعلن يبدونه ويظهرونه، ودينا يُسَرّ به، فما يسر به لا يعلنونه ويُحرِّمون السؤال فيه، ولا يقبلون فيه نقاشًا، وعندما تصل إلى الحقيقة وتعرضها عليهم لا يقبلونها، وما الذي جعلهم يلتوون هكذا؟ لأن لهم حالين اثنتين: حال أيام أن كانوا يعاديهم من لا يؤمن بالسماء ومنهج السماء كعبدة الأوثان والمشركين. وقال فيه الحق: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89]
لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا على هؤلاء الكافرين، وقالوا: أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لأنهم: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلًا...} [التوبة: 9]
وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم، وعندما تأتي النبوة تنزع منهم السلطة، فليس في الإِسلام سيطرة لرجال الدين ولا كهنوت. وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم، فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} [الأنعام: 114]
وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل. إذن فهناك علم بينهم وبين نفوسهم؛ وعلم آخر يقولونه للآخرين. وقوله الحق: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه والزيادة؛ لأن هناك أمورًا قد تزلزل الإيمان؛ لذلك يأتي الأمر بالثبات، أو هو إهاجة له، أو هو تسلية للمؤمنين إذ قال لهم لا تمتروا ولا تشكوا. اهـ.